الخميس، 7 يوليو 2011

مسقط- عبدالرزاق الربيعي - "بستان السينما "وزهور "قاسم حول" التي لم تذبل بعد


خلال لقائي الأخير بالمخرج المبدع  قاسم حول في دبي خلال اقامة مهرجان الخليج السينمائي حدثني عن  تجارب مر بها خلال حوالي نصف قرن من العمل السينمائي أخرج خلالها العديد من الأفلام التي شكلت ذاكرة سينمائية ك"بيوت في ذلك الزقاق" و"الأهوار" و"عائد الى حيفا" و"ليلى العامرية" و"قصة الأهوار" وعشرات الأفلام التسجيلية

 فسألته "لماذا لاتدون  هذه التجارب في كتاب؟" فأجاب : فعلت هذا , بكتابي "بستان السينما"
وأضاف" طبعا مذكراتي السينمائية  كثيرة وقريباً سوف أطبعها فأنا أضع فيها اللمسات الأخيرة خشية أن أنسى شيئا أو أخفق في التدوين لأنها مسؤولية فلم أترك فيلما إلا ورحلت فيه , لذا  سيكون كتاباً يكشف واقعا وحياة وكنت أشعر بمتعة في تدوينه وأحاول أن أضع فيه بعض الصور التي تمر مراحل من حياتي السينمائية "

 قلت : رائع , فالمكتبة العربية تفتقر الى كتب تختزل تجارب أناس اشتغلوا في عالم  السينما المدهش ,كيف أحصل على نسخة منه؟ فطمأنني إنه حمل معه في الحقيبة بضع نسخ بقيت منه واحدة وستكون من نصيبي  وهذا ما كان  ,ولأنها نسخة واحدة لذا  تقاسمتها أنا و أخي محمد  , واتفقنا على أن أحملها  معي الى مسقط  وحين أنتهي من قراءتها , أبعثها لأخي  في بغداد, ولم نعلم أن النسخة  ستتحول  الى سندباد ورقي فالكتاب الذي صدر عن دار نقوش عربية  التونسية  انتقل من تونس الى هولندا ومن ثم الى دبي ومسقط ليحط رحاله ببغداد
بعد قراءته قلت لأخي محمد: رغم حرصي على هذه النسخة من الكتاب  الممهورة بتوقيع مؤلفه  لكنني سأتخلى عنه  لك لتستفيد أنت والسينمائيون الشباب مما جاء به من أفكار وآراء   لأنه      يضم عصارة تجربة غنية ! ولو كنت في قسم السينما بمعهد أو كلية الفنون الجميلة لجعلته من المقررات الدراسية , فقال: سأفعل
وحين انتهيت من قراءته تملكتني حيرة , وتساءلت :  كيف يمكن أن نصنف الكتاب ؟هل هو  سيرة ذاتية؟ أم مقالات في صناعة السينما؟ أم ارشادات لطلبة السينما؟
 وبعد تأمل توصلت للإجابة ولكن قبل ذلك لنتصفح الكتاب ونتجول عبر سطوره في بستان قاسم حول الذي علق على واجهة  الصفحة الخامسة , وهي الأولى من الكتاب , جملة بحروف كبيرة تقول "عندما تسقط السياسة يسقط النظام وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن "
هذه الجملة بلورت سؤالا :ماعلاقة السينما وبستانها الجميل بالسياسة والنظام والوطن؟
وكادت أن تضيفه   الى الأسئلة السابقة لولا أن الكاتب ذكر في مقدمة مؤلفه  " "حصل أن إنقطع الوصل بين جيلين سينمائيين,  العسف عبر عنه ابن خلدون بالقول" العسف يفسد النوع ويؤدي الى خراب المجتمع" وهذا ماحصل لوطن جميل اسمه العراق  احترقت أفلامنا التي انتجناها , أحرقها العسف بكل أشكاله ومهما اختلفت تسميات هذا العسف لكننا مصرون على اعادة بناء ما تهدم "
ويضيف "أضع بين أيديكم كتابا ليس قاموسيا بقدر ماهو مجموعة من النوافذ افتحوها بتأن حتى تروا الطريق ...هذه هدية متواضعة لكم حيث العسف حال دون أن أقف أمامكم في درس ضمن صف صغير مثلما وقف أمامي في ذلك الصف المدرسي أساتذة كبار تعلمنا منهم ونكن لهم كل المودة والإعجاب"
إذن يريد أن يقول إن الظروف التي مر بها العراق حالت دون لقائه بالجيل الجديد من السينمائيين العراقيين لذا فإنه يحاول أن ينقل تجربته اليهم عبر صفحات هذا الكتاب الصغير الحجم الكبير المحتوى ,فقاسم حول الذي درس المسرح في معهد الفنون الجميلة ببغداد 1959 لعدم وجود قسم للسينما يقول"هذا الخطأ قادنا نحو الصح ففي تقديري لاقيمة للسينما بدون أسس مسرحية يعرفها السينمائي كما يقول مخاطبا السينمائيين "أصدقائي طلبة السينما المسرح أساس جميل لكل سينمائي فتعلموه جيدا لأنه يقودكم الى سينما جيدة "
ويشير مرة أخرى الى أهمية دراسة المسرح بالنسبة للسينمائي في موضع آخروكأنه يريد أن يرسخ هذا الدرس في ذهن  المخرج الشاب  فيقول " تذكر أن التألق في السينما يمر عبر المسرح ولكن  هذه ال"لكن" تتمثل في أن عليك أن تدخل عالم السينما من باب المسرح ثم تغلقه لأنك إن تعلقت فيه خسرت شكل السينما , ينبغي  أن تستفيد من المسرح في مجالات عديدة ولكن احذر من صيغ التمثيل المسرحية استفد من المسرح في بناء الشخصية ولاتتاثر بطريقة الأداء المسرحي لانها تشكل خطورة على شاشة السينما  المسرح كنز عميق يشكل الإحتياطي الثقافي للمخرج وهو يحول الدنيا الى جمال أخاذ على شاشة بيضاء وسط الظلام في المشاهدة "
وهكذا يواصل خطابه عبر لغة شعرية هامسة هادئة ,فيها الكثير من الأبوية  والحنو والحرص فقاسم حول  حين يكتب تشعر كأنه يجلس أمامك يخاطبك لذا كنت أستحضر صوته وطريقته في الكلام وأنا أقرأ سطور صفحات كتابه   الذي استلّ عنوانه من جملة وردت  في الصفحات الأخيرة منه يؤكد من خلالها على المنهج  حيث  يقول "إن مشاهدة الافلام ودراستها هي ورود بستان السينما ولكن لاتدخل ذلك البستان الجميل سوى بطريقة منهجية  "
ونجد الكثير من التراكيب الفنية و الجمل الشعرية  كوصفه للتلفزيون بأنه فم جائع على مدى أربعة وعشرين ساعة ومطلوب إطعامه وهو أمر ليس غريبا على قاسم حول الذي له العديد من المؤلفات في القصة القصيرة والمسرح والرواية  منها"عودة السنونو" و"الكراج الخامس" و"مذكرات جواز سفر" و"العباءة السوداء" و" العزير "و"الخندك"
ويتحدث عن تجاربه فيقول" أنا من المخرجين الذين لا يرغبون في تصوير أي مشهد مهما بلغ حجمه على مرحلتين أو ليومين فأنا عندما أبدأ بتصوير المشهد يجب أن أنهيه "
أو يقول في موضع آخر" أنا من المخرجين الذين يحبون السينما الوثائقية "
وهكذا يواصل بث رسائل تعكس آراءه وعاداته في العمل السينمائي ويستشهد بعدة مواقف صادفته خلال عمله فحين يقول انه يستعين أحيانا بأناس ليسوا ممثلين ولكنه يجد أن شخصياتهم مناسبة لشخصيات في فيلم له يورد مثالا عن امرأة ظهرت في فيلمه الأخير"المغني" تبحث عن ابن لها مفقود وحين تشاهد المغني قادما تستوقفه وتطلب مساعدته يقول" كنت أبحث عن ممثلة تؤدي لي تلك الشخصية بفكرتها  المؤثرة والانسانية وفيما كنت أنفذ المشاهد سمعت المدير الفني للفيلم كاظم حسين يتحدث عن إمرأة شعبية وهي تروي له حادثة اعدام زوجها من قبل الديكتاتور .." فوجد فيها الممثلة المناسبة فأخبرها أن تقف في طريق المغني بشار البصري واعطيه الرسالة واطلبي منه أن يوصلها لرئيس البلاد ففعلت دون أن تنتبه للكاميرا التي دونت المشهد ثم يقول" لم أترك لعبة الايهام تمر بسلام بل سجلت اسمها واسم زوجها الذي أعدم وبدأت بعد انتهاء التصوير بالعمل على تحويل الإيهام الى واقع لأقدم
قضيتها الى مؤسسة الشهداء .. والا كيف نعمل نحن من أجل الحياة لنصلحها في السينما ولا نصلحها في الحياة عندما نتمكن من ذلك؟"         
ثم يرصد التغييرات التي طرأت في عالم السينما يقول  "تغير عالم السينما بتغير العالم وعوالمه التقنية والفنية "ويتساءل ازاء ذلك: هل سيحتفظ الفيلم السينمائي بالجميل للممثلين ؟أم سيتقلص عالمهم ويبرز عالم المخرجين والتقنيين ويبقى الممثل مجرد خيال أو رسم أو دمية أم فتاة ساحرة الجمال أو ساحرة القبح ؟
العالم يتسارع في تطوراته التقنية وعالم الصورة يغزو الكون فيما المعدات التقنية يصغر حجمها وتكبر فاعليتها يوما بعد يوم "
ويسمي الحروب السائدة الآن هي حروب الصورة والميكروفونات   "والبلدان المتأخرة اجتماعيا وسياسيا ستكون هي الخاسرة في هذه الحروب وستصبح الهيمنة على ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية من خلال حروب الصورة " كما يقول مؤكدا" ضمن كل هذه المتغيرات فان الأسس الكونكريتية للعمل السينمائي تبقى المحرك الذي يختفي وراء كل هذه التقنيات وبدونها يكون البناء هشا والصورة باهتة الألوان والمضمون وغير عميقة الميدان "
يخاطب المخرج القاريء الإفتراضي للكتاب بمفردة"صديقي" ويطري عليه  قائلا" أنك  صديقي المخرج شخصية مدهشة  " وكل ذلك ليلقي على مسامعه جملة يعظم بها العمل السينمائي "الفيلم مهما قصر طريق المشي فيه فهو يبدو غير قصير لأن حجم الانجاز فيه كبير جدا ضمن مفهوم النسبية "
عن الايقاع يقول" ان ايقاع الافلام هو انعكاس لايقاع الحياة فلاتسقط عزيزي المخرج ايقاع الفيلم الامريكي الحديث على احداث وبناء أفلامك "

وحين يتحدث عن الأثر الذي أحدثه ظهور التلفزيون  يقول" لقد أثار ظهور التلفزيون في بدايته حالة من الهلع لدى صناع السينما وذلك بسبب طبيعته التقنية ولكن سرعان ما استعادت السينما موقعها و بقي أن ندرك بأن السينما قد استفادت من القفزة التقنية في عالم التلفزة لصالحها من الناحية الاقتصادية والابداعية والإختصار في مراحل صناعة الفيلم السينمائي "
وفي مقال  حمل عنوان كيف نكتب سيناريو الفيلم؟ يؤكد أن" السيناريو الجيد هو مشروع لفيلم جيد فلابد من بناء محكم للسيناريو " ويقول" في عملية كتابة السيناريو ينبغي الحذر من شخوص فائضة ومن حوار فائض بهذا الصدد يقول الكاتب المسرحي تشيخوف اذا شاهدت في الفصل الأول من مسرحية ما بندقية فيجب أن تسمع منها اطلاقة في الفصل الأخير فالشخصيات الفائضة والكلمات الفائضة والصور الفائضة هي مشروع حيرة عند المتلقي ولذلك ينبغي الدقة في كتابة الحوار والأحداث والأمكنة الفيلم السينمائي هو مثل العمل السيمفوني الموسيقي  اذا ما تحركت آلة موسيقية باتجاه النشاز فان ذلك يشكل كارثة لدى قائد الأوركسترا وبالتالي لدى الجمهور "
ويوجه نصائح" تسلح بالجرأة صديقي المخرج اكتشف الواقع بنفسك على كافة الصعد الفنية والاجتماعية انت مكتوب عليك أن تكون بحارا في سفن غير مكتملة الامان لكنك مضطر للصعود اليها "
ويقول" عندما ينتهي فيلمك من المونتاج صديقي المخرج اتركه فترة بضعة أيام ثم وجه دعوة لعدد محدود من محبيك المخلصين ومن مستويات اجتماعية وثقافية على أن لايكون بينهم ناقد أو حاسد"
والغريب إنه يقرن الناقد بالحاسد فيقول في موضع آخر" ظاهرة الحساد والنقاد هي ظاهرة عربية أكثر منها ظاهرة ثقافية والناقد العربي في أغلب الحالات ليست له معرفة بالسينما ولا يتقنياتها ولا بمفردات لغتها ,فيكتب ما يشاء ويهدم ما يشاء دون أي اعتبار لمشاعر المبدعين"
ويكرر" كثير من النقاد لا يعرفون فن السينما ولا يتقنون مفردات لغتها ولا يعرفون مراحل انتاجها كما لا يدركون شكل العرض السينمائي"
وتعلو نبرة الإنفعال ليقول" أسألكم أصدقائي المخرجين:هل شاهدتم في كل العالم تمثالا لناقد؟"

ويناقش وضع السينما العربية فيرى أنها تحتاج الى الدعم المادي ويلقي اللوم على أصحاب رؤوس الأموال العربية حيث يقول" لقد تأسست هوليوود بامكانات مصارف الغرب التي استثمرت السيولة النقدية في صناعة السينما في العالم فيما مصارفنا العربية جبانة استثمرت سيولتها النقدية في عالم الادخار واستثمرتها في عملية الاستيراد ولم تقدم خدمة للثقافة "
ويختتم فصول كتابه بكلمات مليئة بالثقة بالنفس والتجربة يوجهها لكل مخرج فهو يقول" هذا الكتاب الصغير الذي يشبه شبابيك مفتوحة هو اليك أيها المخرج العربي أو الشرق أوسطي أحدثك عن فيلم سينمائي تريد تحقيقه ,عن حلم سينمائي روائي أو تسجيلي ,أنا فتحت لك الأبواب بطريقة صحيحة حتى لاتظل تحلم حلم اليقظة أو حلم المنام في ظلام الوهم فلقد أصبح بامكانك الآن أن تعمل فيلما جيدا"
ومثلما أدخل القاريء معه في هذا البستان  أخرجه معه    في جولة مليئة بالمتعة الفكرية لأن تلك الأفكار والملاحظات جاءت بأسلوب بسيط بعيد عن التعقيد في الطرح واستحضار  النظريات الجاهزة ,   فالكتاب كان بمثابة باقة زهور  تضم زهورا  ذات الوان مختلفة ففي الكتاب أجزاء من سيرة ذاتية وآراء في الصناعة السينمائية  وتجارب ودروس في فن السينما  هذه الباقة قطفها المخرج والكاتب قاسم حول من خلال تجواله في "بستان السينما"



----------------------------------------------
 المدونة ليست مسئولة - المقال يعبر عن رأي الكاتب يمكنك التعليق على المقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق